تخيل أن تستيقظ البشرية في صباح واحد على سعادة مفروضة، كأن طاقة غريبة نزلت من السماء ومسحت الحزن والغضب، وجمعت الناس في وعي سعيد ومشترك. لكن في وسط هذه السعادة الاصطناعية، تقف امرأة واحدة، تعيسة وغاضبة ووحيدة، وهي كارول ستوركا، بطلة مسلسل “Pluribus” الذي أبدعه فينس جيليجان، مبتكر مسلسلات مثل “Breaking Bad” و”Better Call Saul”. المسلسل، الذي تشارك في بطولته ريا سيهورن وكارولينا ويدرا، عرض موسمه الأول على Apple TV+، وليس مجرد عمل خيال علمي بل يعكس أسئلة عميقة عن الإنسانية والسعادة والفردية، كأنه حلم يتحول إلى كابوس ببطء.

ا

في جوهره، يتحدث “Pluribus” عن فيروس فضائي يحول البشر إلى خلية نحل سعيدة، حيث يعيش الجميع في وئام، لكن هذا السلام يطارد القلة التي لا تستجيب للفيروس، مما يجبرها على الانضمام. كارول، كاتبة روايات رومانسية تاريخية ناجحة لكنها تعيسة في داخلها، تجد نفسها وحيدة في ألبوكيركي، تتجول في مدينة أصبح سكانها يتحركون بهدوء مريب، مع ابتسامات فارغة على وجوههم.

الفكرة هنا تتميز بأصالتها؛ نادرًا ما يتناول الخيال العلمي غزوًا يجلب السعادة بدلاً من الدمار. هذه استعارة رقيقة لعصرنا الحالي: هل وسائل التواصل والذكاء الاصطناعي يسعيان لتوحيدنا في سعادة مصطنعة، محو الغضب والاختلاف؟ الذكاء الاصطناعي، مثلاً، جعل تصميم البرمجيات والفيديوهات والصور متاحًا وسهلاً للجميع، مما طمس الفروق الفردية بين العقول، كأنها عصا سحرية.

لكن العيب الوحيد هو أن الفكرة تبقى مفتوحة أكثر من اللازم في الموسم الأول، تثير الكثير من الأسئلة دون إجابات واضحة، كأنها شجرة تنمو ببطء، تترك المتفرج يتساءل إن كانت ستثمر أم تبقى بلا هدف.

نت

العنوان “Pluribus” ليس اختيارًا عشوائيًا، بل يمثل طعنة في قلب الشعار الأمريكي “e pluribus unum” – من الكثيرين، واحد. هذا الشعار يمجد فكرة أن الولايات المتعددة والأعراق المختلفة تتحد في أمة واحدة قوية، لكن جيليجان يقلب هذا المفهوم، ليصبح تهديدًا بدلاً من وعد. في المسلسل، يصبح “من الكثيرين، واحد” حرفيًا: فيروس فضائي يمحو الفروق الفردية، ويذيب الوعي الشخصي في خلية جماعية سعيدة.

م

هذا القلب ليس مجرد لعبة كلمات، بل يمثل استعارة مرعبة لعصرنا. في زمن يسعى فيه الذكاء الاصطناعي والخوارزميات لتوحيد التفكير، يسأل جيليجان: ماذا لو نجحوا؟ ماذا لو أصبحنا “واحدًا” حقًا، لكن بفقدان كل ما يجعلنا بشرًا؟ كارول، الوحيدة التي تملك مناعة ضد مصير ملايين البشر، تمثل الكثرة المتمردة، الفرد الذي يرفض الذوبان. عنوان المسلسل يهمس منذ البداية بأن الوحدة قد تكون أخطر غزو، لأنها تأتي مغلفة بهدية السعادة، مما يجعل الرفض يبدو جنونًا.

الحبكة تتابع كارول في رحلتها لفهم ما حدث، ثم محاولة إنقاذ أو تدمير هذا العالم الجديد. تبدأ بحدث مفاجئ في الحلقة الأولى، ثم تتباطأ لتتركز على تفاصيل يومية، تتجول في مدينة خالية من الصراع، تتفاعل مع “المُنضمين” الذين يبتسمون بإلحاح، وتكتشف ناجين آخرين مثل مانوسوس.

ن

المزايا الكبرى في هذا البناء البطيء هي أنه يجعل التوتر نفسيًا، كما لو كنت تشاهد قطرة ماء تتساقط ببطء على صخرة. لكن العيب هو أن بعض الحلقات تمتد في مشاهد طويلة لتجوال كارول، مما يبطئ الإيقاع إلى حد يشعر فيه المشاهد بالاختناق، كأن العمل يحاكي عزلة البطلة. هذا التطويل يعزز الفلسفة، لكنه قد يفقد الجمهور الذي يبحث عن دفع درامي أسرع.

م

ريا سيهورن تحمل “Pluribus” على كتفيها، تجسد كارول كامرأة تعيسة، غاضبة، لكنها عميقة كبحيرة جليدية تخفي تيارات حارة تحت السطح. أداؤها ليس مجرد تمثيل، بل رقصة على حافة الانهيار، حيث تعكس نظرتها فقدانها ورفضها لسعادة لا تفهمها. في مشاهد العزلة الطويلة، تجسد سيهورن الهشاشة دون كلام، كأن وجهها لوحة تتغير ألوانها مع كل نسمة ريح باردة. أداؤها يجعلنا نشعر بثقل الوحدة، ويحول شخصيتها إلى مرآة للبشر الذين يتمسكون بغضبهم كدرع ضد العالم.

ثم تأتي كارولينا ويدرا في دور زوشا، المرأة الساحرة التي تساعد كارول على التواصل مع الآخرين. زوشا تمتلك ابتسامة دائمة، لكن ويدرا تضيف طبقات خفية تجعلها مرعبة بلطف. أما كارلوس مانويل فيسجا في دور مانوسوس، الناجي الآخر، فيضيف نكهة متمردة، حيث يرفض الاتصال بالآخرين. هؤلاء الثلاثة يشكلون مثلثًا فلسفيًا: سيهورن تمثل الفرد المتردد، ويدرا رمز الجماعة المغرية، وفيسجا الفرد المتمرد الذي يسعى لإنقاذ العالم.

م

جيليجان يستخدم ألبوكيركي كخلفية تعكس عزلة كارول، حيث تعتمد التصويرات على لقطات طويلة وألوان باردة. الموسيقى تضيف غموضًا، والمؤثرات البصرية تجعل الابتسامات المخيفة أكثر تأثيرًا. بعض المشاهد تبدو مفرطة في الجمالية، كلوحة ثابتة تطيل النظر دون دفع الحكاية للأمام.

ن

في النهاية، يسأل “Pluribus” سؤالًا مرعبًا: هل الغضب والحزن والصراع ضرورية للإنسانية؟ كارول تمثل الفرد المتمرد الذي يرى في السعادة المفروضة فقدان الذات. المط في الحلقات يجبرنا على الجلوس مع الفراغ، كما تجلس كارول مع عزلتها. هذا يعزز المضمون، لكنه يثقل الإيقاع، ليضع المتفرج في موقع البطلة. العمل يطرح أفكارًا جديدة في زمن تكرار الأفكار، لكنه يحتاج لصبر شديد، كما تحتاج كارول نفسها. في عالم يركض نحو السعادة السريعة، يهمس المسلسل بأن التعاسة قد تكون ما يجعلنا بشرًا.

ت

الصور من الموقع الرسمي لشبكة Apple TV.